الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
إذن: لو شاء الحق سبحانه لهدى الثقلين أي: الإنس والجن، كما هدى كُلَّ الكائنات الأخرى، ولكنه يريد قلوبًا لا قوالبَ.ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {هُوَ الذي أَنْزَلَ}.وقوله: {أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاء} [النحل: 10].يبدو قولًا بسيطًا؛ ولكن إنْ نظرنا إلى المعامل التي تُقطِّر المياه وتُخلِّصها من الشوائب لَعلِمْنَا قَدْر العمل المبذول لنزول الماء الصافي من المطر.والسماء كما نعلم هي كل ما يعلونا، ونحن نرى السحاب الذي يجيء نتيجة تبخير الشمس للمياه من المحيطات والبحار، فيتكوَّن البخار الذي يتصاعد، ثم يتكثَّف ليصيرَ مطرًا من بعد ذلك؛ وينزل المطر على الأرض.ونعلم أن الكرة الأرضية مُكوَّنة من محيطات وبحار تُغطِّي ثلاثة أرباع مساحتها، بينما تبلغ مساحة اليابسة رُبْع الكرة الأرضية؛ فكأنه جعل ثلاثة أرباع مساحة الكرة الأرضية لخدمة رُبْع الكرة الأرضية.ومن العجيب أن المطر يسقط في مواقع قد لا تنتفع به، مثل هضاب الحبشة التي تسقط عليها الأمطار وتصحب من تلك الهضاب مادة الطمي لِتُكوِّن نهر النيل لنستفيد نحن منه.ونجد الحق سبحانه يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} [النور: 43].وهنا يقول الحق سبحانه: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10].ولولا عملية البَخْر وإعادة تكثيف البخار بعد أن يصير سحابًا؛ لَمَا استطاع الإنسانُ أنْ يشربَ الماء المالح الموجود في البحار، ومن حكمة الحق سبحانه أن جعل مياه البحار والمحيطات مالحةً؛ فالمِلْح يحفظ المياه من الفساد.وبعد أن تُبخِّر الشمسُ المياه لتصير سحابًا، ويسقط المطر يشرب الإنسانُ هذا الماء الذي يُغذِّي الأنهار والآبار، وكذلك ينبت الماء الزرع الذي نأكل منه.وكلمة {شَجَرٌ} تدلُّ على النبات الذي يلتفُّ مع بعضه، ومنها كلمة مشاجرة والتي تعني التداخل من الذين يتشاجرون معًا.والشجر أنواع؛ فيه مغروس بمالك وهو مِلْك لِمَنْ يغرسه ويُشرِف على إنباته، وفي ما يخرج من الأرض دون أنْ يزرعه أحد وهو مِلْكية مشاعة، وعادة ما نترك فيه الدَّواب لترعى، فتأكل منه دون أنْ يردَّها أحد.وهنا يقول الحق سبحانه: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10].من سَام الدابة التي تَرْعى في المِلْك العام، وساعة ترعى الدابة في المِلْك العام فهي تترك آثارها من مَسَارب وعلامات، ويُسَمُّون الأرضَ التي يوجد بها نبات ولا يقربها حيوان بأنها روضة أنُف بمعنى أن أحدًا لم يَأتِ إِليها أو يَقربها؛ كأنها أنفت أنْ يقطف منها شيء.ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ}.وهكذا يُعلِمنا الله أن النبات لا ينبت وحده، بل يحتاج إلى مَنْ يُنبِته، وهنا يَخصُّ الحق سبحانه ألوانًا من الزراعة التي لها أَثَر في الحياة، ويذكر الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من كل الثمرات.والزيتون كما نعلم يحتوي على مواد دُهْنية؛ والعنب يحتوي على مواد سُكرية، وكذلك النخيل الذي يعطي البلح وهو يحتوي على مواد سُكرية، وغذاء الإنسان يأتي من النشويات والبروتينات.وما ذكره الحق سبحانه أولًا عن الأنعام، وما ذكره عن النباتات يُوضِّح أنه قد أعطى الإنسان مُكوِّنات الغذاء؛ فهو القائل: {والتين والزيتون وَطُورِ سِينِينَ وهذا البلد الأمين لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 1-4].أي: أنه جعل للإنسان في قُوته البروتينات والدُّهنيات والنشويات والفيتامينات التي تصون حياته.وحين يرغب الأطباء في تغذية إنسان أثناء المرض؛ فهم يُذِيبون العناصر التي يحتاجها للغذاء في السوائل التي يُقطِّرونها في أوردته بالحَقْن، ولكنهم يخافون من طول التغذية بهذه الطريقة؛ لأن الأمعاء قد تنكمش.ومَنْ يقومون بتغذية البهائم يعلمون أن التغذية تتكَّون من نوعين؛ غذاء يملأ البطن؛ وغذاء يمدُّ بالعناصر اللازمة، فالتبن مثلا يملأ البطن، ويمدُّها بالألياف التي تساعد على حركة الأمعاء، ولكن الكُسْب يُغذِّي ويضمن السِّمنة والوَفْرة في اللحم.وحين يقول الحق سبحانه: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات} [النحل: 11].فعليك أنْ تستقبلَ هذا القول في ضَوْء قَوْل الحق سبحانه: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 64].ذلك أنك تحرثُ الأرض فقط، أما الذي يزرع فهو الحق سبحانه؛ وأنت قد حرثتَ بالحديد الذي أودعه الله في الأرض فاستخرجْتَه أنت؛ وبالخشب الذي أنبته الله؛ وصنعتَ أنت منهما المحراث الذي تحرث به في الأرض المخلوقة لله، والطاقة التي حرثتَ بها ممنوحة لك من الله.ثم يُذكِّرك الله بأن كُلَّ الثمرات هي من عطائه، فيعطف العام على الخاص؛ ويقول: {وَمِن كُلِّ الثمرات} [النحل: 11].أي: أن ما تأخذه هو جزء من كل الثمرات؛ ذلك أن الثمرات كثيرة، وهي أكثر من أن تُعَد.ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 11].أي: على الإنسان أنْ يُعمِلَ فكره في مُعْطيات الكون، ثم يبحث عن موقفه من تلك المُعْطيات، ويُحدِّد وَضْعه ليجد نفسه غير فاعل؛ وهو قابل لأنْ يفعَل.وشاء الحق سبحانه أن يُذكِّرنا أن التفكُّر ليس مهمةَ إنسان واحد بل مهمة الجميع، وكأن الحق سبحانه يريد لنا أنْ تتسانَد أفكارنا؛ فَمْن عنده لَقْطة فكرية تؤدي إلى الله لابد أنْ يقولها لغيره.ونجد في القرآن آيات تنتهي بالتذكُّر والتفكُّر وبالتدبُّر وبالتفقُّه، وكُلٌّ منها تؤدي إلى العلم اليقيني؛ فحين يقول {يتذكرون} فالمعنى أنه سبق الإلمام بها؛ ولكن النسيان محاها؛ فكأن مِنْ مهمتك أنْ تتذكَّر.أما كلمة {يتفكرون} فهي أُمّ كل تلك المعاني؛ لأنك حين تشغل فكرك تحتاج إلى أمرين، أنْ تنظرَ إلى مُعْطيات ظواهرها ومُعْطيات أدبارها.ولذلك يقول الحق سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} [النساء: 82].وهذا يعني ألاَّ تأخذ الواجهة فقط، بل عليك أنْ تنظرَ إلى المعطيات الخلفية كي تفهم، وحين تفهم تكون قد عرفتَ، فالمهمة مُكوَّنة من أربع مراحل؛ تفكُّر، فتدبُّر، فتفقُّه؛ فمعرفة وعِلْم. اهـ.
فعطف الشاء على النعم، وهي هنا الإبل خاصة.قال الجوهري: والنعم: واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل.ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم فقال: {فِيهَا دِفْء} الدفء: السخانة، وهو ما استدفىء به من أصوافها وأوبارها وأشعارها.والجملة في محلّ النصب على الحال {ومنافع} معطوف على {دفء} وهي: درّها وركوبها ونتاجها، والحراثة بها ونحو ذلك.وقد قيل: إن الدفء: النتاج واللبن.قال في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، ثم قال: والدفء أيضًا: السخونة، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأوّل فلابد من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها، وإن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحًا.وقيل: المراد بالمنافع النتاج خاصة؛ وقيل: الركوب {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي: من لحومها وشحومها.وخصّ هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها.وقيل: خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل، وغيره نادر.{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} أي: لكم فيها مع ما تقدّم ذكره جمال، والجمال: ما يتجمل به ويتزين، والجمال: الحسن، والمعنى هنا: لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي: في هذين الوقتين، وهما وقت ردّها من مراعيها، ووقت تسريحها إليها، فالرواح رجوعها بالعشيّ من المراعي.والسراح: مسيرها إلى مراعيها بالغداة.يقال: سرحت الإبل أسرحها سرحًا وسروحًا: إذا غدوت بها إلى المرعى، وقدّم الإراحة على التسريح لأن منظرها عند الإراحة أجمل، وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب، فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها، وخصّ هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها، لأنها عند استقرارها في الحظائر لا يراها أحد، وعند كونها في مراعيها هي متفرّقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب.{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} الأثقال: جمع ثقل، وهو متاع المسافر من طعام وغيره، وسمي ثقلًا لأنه يثقل الإنسان حمله، وقيل: المراد أبدانهم {إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس} أي: لم تكونوا واصلين إليه لو لم يكن معكم إبل تحمل أثقالكم إلاّ بشق الأنفس لبعده عنكم، وعدم وجود ما يحمل ما لابد لكم منه في السفر، وظاهره يتناول كل بلد بعيدة من غير تعيين؛ وقيل: المراد بالبلد مكة، وقيل: اليمن ومصر والشام لأنها متاجر العرب، {وشق الأنفس} مشقتها.
|